فصل: فَصْلٌ: الْوَاجِبَاتُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: الْوَاجِبَاتُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ:

أَمَّا الْوَاجِبَاتُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ فَسِتَّةٌ: مِنْهَا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَالثَّلَاثِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا: فَإِنْ كَانَ عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ، وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّعْيِينِ فَرْضٌ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَوْ حَرْفًا مِنْهَا فِي رَكْعَةٍ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَقَالَ مَالِكٌ: قِرَاءَتُهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ فَرْضٌ.
(احْتَجَّا) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ».
وَرُوِيَ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا»، أَوْ قَالَ: وَشَيْءٌ مَعَهَا؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَى قِرَاءَتِهِمَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَيَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ.
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ}، أَمْرٌ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، فَتَعْيِينُ الْفَاتِحَةِ فَرْضًا أَوْ تَعْيِينُهُمَا نَسَخَ الْإِطْلَاقَ، وَنَسْخُ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَكَيْفَ يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؟ فَقَبِلْنَا الْحَدِيثَ فِي حَقِّ الْوُجُوبِ عَمَلًا حَتَّى تُكْرَهَ تَرْكُ قِرَاءَتِهِمَا دُونَ الْفَرْضِيَّةِ عَمَلًا بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، كَيْ لَا يُضْطَرَّ إلَى رَدِّهِ لِوُجُوبِ رَدِّهِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ، وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِعْلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيمَا يُجْهَرُ وَهُوَ الْفَجْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَالْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ وَهُوَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ إذَا كَانَ إمَامًا.
وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا، فَإِنْ كَانَ إمَامًا يَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ، وَكَذَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالتَّرْوِيحَاتِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ يَتَحَمَّلُهُ الْإِمَامُ عَنْ الْقَوْمِ فِعْلًا، فَيَجْهَرُ لِيَتَأَمَّلَ الْقَوْمُ وَيَتَفَكَّرُوا فِي ذَلِكَ، فَتَحْصُلُ ثَمَرَةُ الْقِرَاءَةِ وَفَائِدَتُهَا لِلْقَوْمِ، فَتَصِيرُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةً لَهُمْ تَقْدِيرًا، كَأَنَّهُمْ قَرَءُوا.
وَثَمَرَةُ الْجَهْرِ تَفُوتُ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْأَغْلَبِ يَحْضُرُونَ الْجَمَاعَاتِ فِي خِلَالِ الْكَسْبِ وَالتَّصَرُّفِ وَالِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِذَلِكَ، فَيَشْغَلُهُمْ ذَلِكَ عَنْ حَقِيقَةِ التَّأَمُّلِ فَلَا يَكُونُ الْجَهْرُ مُفِيدًا بَلْ يَقَعُ تَسْبِيبًا إلَى الْإِثْمِ بِتَرْكِ التَّأَمُّلِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ صَلَاةِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ إلَيْهَا لَا يَكُونُ فِي خِلَالِ الشُّغْلِ، وَبِخِلَافِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدَّى فِي الْأَحَايِينِ مَرَّةً عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ وَحُضُورِ السُّلْطَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَبْعَثَةٌ عَلَى إحْضَارِ الْقَلْبِ وَالتَّأَمُّلِ؛ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالْأَرْكَانُ فِي الْفَرَائِضِ تُؤَدَّى عَلَى سَبِيلِ الشُّهْرَةِ دُونَ الْإِخْفَاءِ، وَلِهَذَا «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي الِابْتِدَاءِ» إلَى أَنْ قَصَدَ الْكُفَّارُ أَنْ لَا يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَكَادُوا يَلْغُونَ فِيهِ فَخَافَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْأَذَى فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَلِهَذَا كَانَ يَجْهَرُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُمَا بِالْمَدِينَةِ وَمَا كَانَ لِلْكُفَّارِ بِالْمَدِينَةِ قُوَّةُ الْأَذَى، ثُمَّ وَإِنْ زَالَ هَذَا الْعُذْرُ بَقِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ وَنَحْوِهِ؛ وَلِأَنَّهُ وَاظَبَ عَلَى الْمُخَافَتَةِ فِيهِمَا فِي عُمْرِهِ فَكَانَتْ وَاجِبَةً؛ وَلِأَنَّهُ وَصَفَ صَلَاةَ النَّهَارِ بِالْعَجْمَاءِ وَهِيَ الَّتِي لَا تَبِينُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْوَصْفُ لَهَا إلَّا بِتَرْكِ الْجَهْرِ فِيهَا، وَكَذَا وَاظَبَ عَلَى الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ وَالْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُخَافَتُ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَعَلَى هَذَا عَمَلُ الْأُمَّةِ وَيُخْفِي الْقِرَاءَةَ فِيمَا سِوَى الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ صِفَةُ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ فِيمَا يُخَافَتُ أَوْ خَافَتْ فِيمَا يُجْهَرُ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا يَكُونُ مُسِيئًا، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إسْمَاعُ الْقَوْمِ فِيمَا يُجْهَرُ، وَإِخْفَاءُ الْقِرَاءَةِ عَنْهُمْ فِيمَا يُخَافَتُ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ عَمْدًا يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ، وَسَهْوًا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً يُخَافَتُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ خَافَتَ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ، وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ إنْ زَادَ عَلَى مَا يُسْمِعُ أُذُنَيْهِ فَقَدْ أَسَاءَ.
وَذَكَرَ عِصَامُ بْنُ أَبِي يُوسُفَ فِي مُخْتَصَرِهِ وَأَثْبَتَ لَهُ خِيَارَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، اسْتِدْلَالًا بِعَدَمِ وُجُوبِ السَّهْوِ عَلَيْهِ إذَا جَهَرَ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ»؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى إسْمَاعِ غَيْرِهِ يُخَافِتُ فَالْمُنْفَرِدُ أَوْلَى وَلَوْ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا يَكُونُ مُسِيئًا، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَابِ السَّهْوِ بِخِلَافِ الْإِمَامِ.
(وَالْفَرْقُ) أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَجِبُ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ، وَالنُّقْصَانُ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ إسَاءَتَهُ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ شَيْئَيْنِ نُهِيَ عَنْهُمَا: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ رَفَعَ صَوْتَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الرَّفْعِ، وَالثَّانِي- أَنَّهُ أَسْمَعَ مَنْ أُمِرَ بِالْإِخْفَاءِ عَنْهُ، وَالْمُنْفَرِدُ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَطْ فَكَانَ النُّقْصَانُ فِي صَلَاتِهِ أَقَلَّ، وَمَا وَجَبَ لِجَبْرِ الْأَعْلَى لَا يَجِبُ لِجَبْرِ الْأَدْنَى وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ إنْ شَاءَ جَهَرَ بِقَدْرِ مَا يُسْمِعُ أُذُنَيْهِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ مُفَسَّرًا أَنَّهُ بَيْنَ خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ: إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ الْقِرَاءَةَ، أَمَّا كَوْنُ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ فَلِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ إمَامٌ فِي نَفْسِهِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ.
وَلَهُ أَنْ يُخَافِتَ بِخِلَافِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَحْتَاجُ إلَى الْجَهْرِ لِإِسْمَاعِ غَيْرِهِ وَالْمُنْفَرِدُ يَحْتَاجُ إلَى إسْمَاعِ نَفْسِهِ لَا غَيْرُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْمُخَافَتَةِ، وَذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ أَنَّ الْجَهْرَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِالْجَمَاعَةِ، وَالْمُنْفَرِدُ إنْ عَجَزَ عَنْ تَحْقِيقِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ التَّشَبُّهِ، وَلِهَذَا إذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ كَانَ أَفْضَلَ هَذَا فِي الْفَرَائِضِ وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعَاتِ فَإِنْ كَانَ فِي النَّهَارِ يُخَافِتُ، وَإِنْ كَانَ فِي اللَّيْلِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ خَافَتَ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ، وَالْحُكْمُ فِي الْفَرَائِضِ كَذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَ بِجَمَاعَةٍ كَمَا فِي التَّرَاوِيحِ يَجِبُ الْجَهْرُ وَلَا يَتَخَيَّرُ فِي الْفَرَائِضِ، وَقَدْ رُوِيَ: «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى بِاللَّيْلِ سُمِعَتْ قِرَاءَتُهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ».
وَرُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَتَهَجَّدُ بِاللَّيْلِ وَيُخْفِي الْقِرَاءَةَ، وَمَرَّ بِعُمَرَ وَهُوَ يَتَهَجَّدُ وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، وَمَرَّ بِبِلَالٍ وَهُوَ يَتَهَجَّدُ وَيَنْتَقِلُ مِنْ سُورَةٍ إلَى سُورَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنْتُ أُسْمِعُ مَنْ أُنَاجِي، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنْتُ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَقَالَ بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنْتُ أَنْتَقِلُ مِنْ بُسْتَانٍ إلَى بُسْتَانٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكِ قَلِيلًا، وَيَا عُمَرُ اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ قَلِيلًا، وَيَا بِلَالُ إذَا فَتَحْتَ سُورَةً فَأَتِمَّهَا»، ثُمَّ الْمُنْفَرِدُ إذَا خَافَتَ وَأَسْمَعَ أُذُنَيْهِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ لِوُجُودِ الْقِرَاءَةِ بِيَقِينٍ، إذْ السَّمَاعُ بِدُونِ الْقِرَاءَةِ لَا يُتَصَوَّرُ، أَمَّا إذَا صَحَّحَ الْحُرُوفَ بِلِسَانِهِ وَأَدَّاهَا عَلَى وَجْهِهَا وَلَمْ يُسْمِعْ أُذُنَيْهِ وَلَكِنْ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ وَخُرُوجِ الْحُرُوفِ مِنْ مَخَارِجِهَا- فَهَلْ تَجُوزُ صَلَاتُهُ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ الْبَلْخِيّ الْمَعْرُوفِ بِالْأَعْمَشِ، وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ وَالْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وَالشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُسْمِعْ نَفْسُهُ، وَعَنْ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ أَدْنَى رَجُلٌ صِمَاخَ أُذُنَيْهِ إلَى فِيهِ سَمِعَ كَفَى، وَإِلَّا فَلَا، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَا يَجُوزُ، وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلُ اللِّسَانِ وَذَلِكَ بِتَحْصِيلِ الْحُرُوفِ وَنَظْمِهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَقَدْ وُجِدَ، فَأَمَّا إسْمَاعُهُ نَفْسَهُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ؛ لِأَنَّ السَّمَاعَ فِعْلُ الْأُذُنَيْنِ دُونَ اللِّسَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ نَجِدُهَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَصَمِّ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ؟ وَجْهُ قَوْلِ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَقَدْرِ مَا لَا يَسْمَعُ هُوَ لَوْ كَانَ سَمِيعًا لَمْ يَعْرِفْ قِرَاءَةً.
وَجْهُ قَوْلِ بِشْرٍ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعُرْفِ اسْمٌ لِحُرُوفٍ مَنْظُومَةٍ دَالَّةٍ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِصَوْتٍ مَسْمُوعٍ.
وَمَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ أَقْيَسُ وَأَصَحُّ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إشَارَةً إلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ.
وَلَوْ لَمْ يُحْمَلْ قَوْلُهُ: قَرَأَ فِي نَفْسِهِ عَلَى إقَامَةِ الْحُرُوفِ لَأَدَّى إلَى التَّكْرَارِ وَالْإِعَادَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْإِفَادَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْعُرْفِ فِي الْبَابِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالنُّطْقِ مِنْ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَالْيَمِينِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا)- الطُّمَأْنِينَةُ وَالْقَرَارُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الطُّمَأْنِينَةُ مِقْدَارُ تَسْبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ فَرْضٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْخِلَافَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُعَلَّى فِي نَوَادِرِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَرَكَ الْقَوْمَةَ الَّتِي بَعْدَ الرُّكُوعِ وَالْقَعْدَةَ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ إنْ كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى تَمَامِ الرُّكُوعِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ إلَى تَمَامِ الرُّكُوعِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى الْقِيَامِ أَجْزَأَهُ، إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ.
(احْتَجَّا) بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَخَفَّ الصَّلَاةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُمْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ هَكَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَسْتَطِعْ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلِّمْنِي فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذَا أَرَدْتَ الصَّلَاةَ فَتَطَهَّرْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَقُلْ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَاقْرَأْ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى يَطْمَئِنَّ كُلُّ عُضْوٍ مِنْكَ، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَسْتَقِمْ قَائِمًا»، فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ، وَالْإِعَادَةُ لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ فَسَادِ الصَّلَاةِ، وَفَسَادُهَا بِفَوَاتِ الرُّكْنِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَفَى كَوْنَ الْمُؤَدَّى صَلَاةً بِقَوْلِهِ: فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْفَرْضِيَّةِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ احْتَجَّا لِنَفْيِ الْفَرْضِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وَأَمَرَ بِمُطْلَقِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالرُّكُوعُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الِانْحِنَاءُ وَالْمَيْلُ، يُقَالُ: رَكَعَتْ النَّخْلَةُ إذَا مَالَتْ إلَى الْأَرْضِ، وَالسُّجُودُ هُوَ: التَّطَأْطُؤُ وَالْخَفْضُ، يُقَالُ: سَجَدَتْ النَّخْلَةُ إذَا تَطَأْطَأَتْ، وَسَجَدَتْ النَّاقَةُ إذَا وَضَعَتْ جِرَانَهَا عَلَى الْأَرْضِ وَخَفَضَتْ رَأْسَهَا لِلرَّعْيِ، فَإِذَا أَتَى بِأَصْلِ الِانْحِنَاءِ وَالْوَضْعِ فَقَدْ امْتَثَلَ لِإِتْيَانِهِ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فَدَوَامٌ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ، وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي الدَّوَامَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَهُوَ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَلَكِنْ يَصْلُح مُكَمِّلًا، فَيُحْمَلُ أَمْرُهُ بِالِاعْتِدَالِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَنَفْيُهُ الصَّلَاةَ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ، وَتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ الْفَاحِشِ الَّذِي يُوجِبُ عَدَمَهَا مِنْ وَجْهٍ، وَأَمْرُهُ بِالْإِعَادَةِ عَلَى الْوُجُوبِ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ، أَوْ عَلَى الزَّجْرِ عَنْ الْمُعَاوَدَةِ إلَى مِثْلِهِ كَالْأَمْرِ بِكَسْرِ دَنَانِ الْخَمْرِ عِنْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا تَكْمِيلًا لِلْغَرَضِ، عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّنَ الْأَعْرَابِيَّ مِنْ الْمُضِيِّ فِي الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْمَرَّاتِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَطْعِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الصَّلَاةُ جَائِزَةً لَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِهَا عَبَثًا، إذْ الصَّلَاةُ لَا يُمْضَى فِي فَاسِدِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْهُ.
ثُمَّ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ، وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ أَنَّهَا سُنَّةٌ، حَتَّى لَا يَجِبَ سُجُودُ السَّهْوِ بِتَرْكِهَا سَاهِيًا، وَكَذَا الْقَوْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقَعْدَةُ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ مِنْ بَابِ إكْمَالِ الرُّكْنِ، وَإِكْمَالُ الرُّكْنِ وَاجِبٌ كَإِكْمَالِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَاتِحَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْحَقَ صَلَاةَ الْأَعْرَابِيِّ بِالْعَدَمِ؟ وَالصَّلَاةُ إنَّمَا يُقْضَى عَلَيْهَا بِالْعَدَمِ إمَّا لِانْعِدَامِهَا أَصْلًا بِتَرْكِ الرُّكْنِ، أَوْ بِانْتِقَاصِهَا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ، فَتَصِيرُ عَدَمًا مِنْ وَجْهٍ فَأَمَّا تَرْكُ السُّنَّةِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فَاحِشًا، وَلِهَذَا يُكْرَهُ تَرْكُهَا أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَخْشَى أَنْ لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ.
(وَمِنْهَا) الْقَعْدَةُ الْأُولَى لِلْفَصْلِ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا وَلَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَذَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ إذَا قَامَ دَلِيلُ عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ، وَقَدْ قَامَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَرَجَعَ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا يُطْلِقُونَ اسْمَ السُّنَّةِ عَلَيْهَا إمَّا لِأَنَّ وُجُوبَهَا عُرِفَ بِالسُّنَّةِ فِعْلًا، أَوْ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ أَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنْ الصَّلَاةِ فَوَجَبَتْ الْقَعْدَةُ فَاصِلَةً بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا يَلِيهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) التَّشَهُّدُ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَهَذَا دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، فَالْتَفَتَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ»، أَمَرَنَا بِالتَّشَهُّدِ بِقَوْلِهِ: «قُولُوا» وَنَصَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ.
(وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ إذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنْ آخِرِ سَجْدَةٍ وَقَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك أَثْبَتَ تَمَامَ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُجَرَّدِ الْقَعْدَةِ.
وَلَوْ كَانَ التَّشَهُّدُ فَرْضًا لَمَا ثَبَتَ التَّمَامُ بِدُونِهِ، دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُوَاظَبَتُهُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ فِيمَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ، وَقَدْ قَامَ هاهنا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَكَانَ وَاجِبًا لَا فَرْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْفَرْضِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ: أَيْ قَبْلَ أَنْ يُقَدَّرَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَعْرُوفِ، إذْ الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ.
(وَمِنْهَا)- مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيمَا شُرِعَ مُكَرَّرًا مِنْ الْأَفْعَالِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ السَّجْدَةُ، لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِيهِ، وَقِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ فَرَضِيَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، حَتَّى لَوْ تَرَكَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ تَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ صَلَاتِهِ سَجَدَ الْمَتْرُوكَةَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِ التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ سَاهِيًا فَوَجَبَ سُجُودُ السَّهْوِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
(وَأَمَّا) الَّذِي ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ بِعَارِضٍ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: سُجُودُ السَّهْوِ، وَالْآخَرُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ.
(أَمَّا) سُجُودُ السَّهْوِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَان سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ أَنَّ الْمَتْرُوكَ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ سَاهِيًا هَلْ يُقْضَى أَمْ لَا؟ وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ السُّجُودِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِ سَلَامِ السَّهْوِ وَصِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ عَمَلِهِ أَنَّهُ يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ أَمْ لَا، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ، وَكَذَا نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: إذَا سَهَا الْإِمَامُ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْتَمِّ أَنْ يَسْجُدَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ سُنَّةٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْعَوْدَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ، حَتَّى لَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَمَا سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ.
وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَرَفَعَ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ كَمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَالْفَائِتُ مِنْ التَّطَوُّعِ كَيْفَ يُجْبَرُ بِالْوَاجِبِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَهُ إلَى الصَّوَابِ، وَلْيَبْنِ عَلَيْهِ، وَلْيَسْجُدْ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ»، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ.
وَعَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ»، فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُمَا تَصْدِيقًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَبَرِهِ، وَكَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاظَبُوا عَلَيْهِ، وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ؛ وَلِأَنَّهُ شُرِعَ جَبْرًا لِنُقْصَانِ الْعِبَادَةَ فَكَانَ وَاجِبًا كَدِمَاءِ الْجَبْرِ فِي بَابِ الْحَجِّ، وَهَذَا لِأَنَّ أَدَاءَ الْعِبَادَةِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَاجِبٌ، وَلَا تَحْصُلُ صِفَةُ الْكَمَالِ إلَّا بِجَبْرِ النُّقْصَانِ فَكَانَ وَاجِبًا ضَرُورَةً، إذْ لَا حُصُولَ لِلْوَاجِبِ إلَّا بِهِ، إلَّا أَنَّ الْعَوْدَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ لَا لِأَنَّ السُّجُودَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ السُّجُودَ وَقَعَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الْقَعْدَةِ، فَالْعَوْدُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ رَافِعًا لِلْقَعْدَةِ الْوَاقِعَةِ فِي مَحَلِّهَا، فَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَمَحَلُّهَا قَبْلَ الْقَعْدَةِ، فَالْعَوْدُ إلَيْهَا يَرْفَعُ الْقَعْدَةَ كَالْعَوْدِ إلَى السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ فَهُوَ الْفَرْقُ.
(أَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَنَقُولُ: أَصْلُ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا لَكِنَّ لَهَا أَرْكَانٌ لَا تَقُومُ بِدُونِهَا، وَوَاجِبَاتٌ تَنْتَقِصُ بِفَوَاتِهَا وَتَغْيِيرِهَا عَنْ مَحَلِّهَا، فَيُحْتَاجُ إلَى الْجَابِرِ، مَعَ أَنَّ النَّفَلَ يَصِيرُ وَاجِبًا عِنْدَنَا بِالشُّرُوعِ وَيَلْتَحِقُ بِالْوَاجِبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا يُبَيَّنُ فِي مَوَاضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.فَصْلٌ: بَيَانُ سَبَبِ الْوُجُوبِ:

وَأَمَّا بَيَانُ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ تَغْيِيرُهُ أَوْ تَغْيِيرُ فَرْضٍ مِنْهَا عَنْ مَحَلِّهِ الْأَصْلِيِّ سَاهِيًا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الصَّلَاةِ فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ، وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ السَّهْوُ عَنْهُ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ الْأَذْكَارِ، إذْ الصَّلَاةُ أَفْعَالٌ وَأَذْكَارٌ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَفْعَالِ بِأَنْ قَعَدَ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ أَوْ قَامَ فِي مَوْضِعَ الْقُعُودِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ لِوُجُودِ تَغْيِيرِ الْفَرْضِ، وَهُوَ تَأْخِيرُ الْقِيَامِ عَنْ وَقْتِهِ، أَوْ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِهِ مَعَ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأُولَى.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ سَاهِيًا فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَقْعُدْ، فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يُعِدْ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ» وَكَذَا إذَا رَكَعَ فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ أَوْ سَجَدَ فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ أَوْ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ أَوْ سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ لِوُجُودِ تَغْيِيرِ الْفَرْضِ عَنْ مَحَلِّهِ أَوْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ، وَكَذَا إذَا تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ فَتَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ سَجَدَهَا وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَهَا عَنْ مَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ، وَكَذَا إذَا قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَوْ بَعْدَ مَا قَعَدَ وَعَادَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ لِوُجُودِ تَأْخِيرِ الْفَرْضِ عَنْ وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ، أَوْ تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ وَهُوَ السَّلَامُ.
وَلَوْ زَادَ عَلَى قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ فِي أَمَالِي الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ السَّهْوِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجِبُ.
(لَهُمَا) أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ لَوَجَبَ جَبْرُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لَهُ وَلَا يُعْقَلُ تَمَكُّنُ النُّقْصَانِ فِي الصَّلَاةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ بِتَأْخِيرِ الْفَرْضِ وَهُوَ الْقِيَامُ، إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ حَصَلَ بِالصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَأْخِيرٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَلَاةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَوْ تَلَا سَجْدَةً فَنَسِيَ أَنْ يَسْجُدَ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ وَلَوْ سَلَّمَ مُصَلِّي الظُّهْرِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّهَا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ عَلَى مَكَانِهِ- يُتِمُّهَا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ أَمَّا الْإِتْمَامُ فَلِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ فَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَلِتَأْخِيرِ الْفَرْضِ وَهُوَ الْقِيَامُ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي، بِخِلَافِ مَا إذَا سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَوْ مُصَلِّي الْجُمُعَةِ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ نَادِرٌ فَكَانَ سَلَامُهُ سَلَامَ عَمْدٍ، وَأَنَّهُ قَاطِعٌ لِلصَّلَاةِ.
وَلَوْ تَرَكَ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ، وَالْقَوْمَةَ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْ الْقَعْدَةَ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ سَاهِيًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ: عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ عِنْدَهُمَا وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَعَلَى هَذَا إذَا شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ فَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ حَتَّى اسْتَيْقَنَ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا إنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا فَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ، وَإِمَّا إنْ شَكَّ فِي صَلَاةٍ قَبْلَ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ فِي هَذِهِ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ طَالَ تَفَكُّرُهُ بِأَنْ كَانَ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنهُ أَنْ يُؤَدِّيَ فِيهِ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْ لَمْ يَطُلْ فَإِنْ لَمْ يَطُلْ تَفَكُّرُهُ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ تَفَكُّرُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَطُلْ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْوُجُوبِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ تَرْكُ الْوَاجِبِ أَوْ تَغْيِيرُ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ عَنْ وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ، وَلِأَنَّ الْفِكْرَ الْقَلِيلَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَكَانَ عَفْوًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ.
وَإِنْ طَالَ تَفَكُّرُهُ فَإِنْ كَانَ تَفَكُّرُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ السَّهْوُ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلسَّهْوِ يُمْكِنُ النُّقْصَانُ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ أَدَّاهَا، فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الْفِكْرِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ السَّهْوَ كَالْفِكْرِ الْقَلِيلِ.
وَكَمَا لَوْ شَكَّ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى وَهُوَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ أَدَّاهَا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ وَإِنْ طَالَ فِكْرُهُ كَذَا هَذَا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْفِكْرَ الطَّوِيلَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ مِمَّا يُؤَخِّرُ الْأَرْكَانَ عَنْ أَوْقَاتِهَا فَيُوجِبُ تَمَكُّنَ النُّقْصَانِ فِي الصَّلَاةِ، فلابد مِنْ جَبْرِهِ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ، بِخِلَافِ الْفِكْرِ الْقَصِيرِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا شَكَّ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى وَهُوَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلسَّهْوِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ سَهْوُ هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا سَهْوُ صَلَاةٍ أُخْرَى.
وَلَوْ شَكَّ فِي سُجُودِ السَّهْوِ يَتَحَرَّى وَلَا يَسْجُدُ لِهَذَا السَّهْوِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ سُجُودِ السَّهْوِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لَا يَسْلَمُ عَنْ السَّهْوِ فِيهِ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَيُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى.
(وَحُكِيَ) أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ قَالَ لِلْكِسَائِيِّ وَكَانَ الْكِسَائِيُّ ابْنَ خَالَتِهِ: لِمَ لَا تَشْتَغِلُ بِالْفِقْهِ مَعَ هَذَا الْخَاطِرِ؟ فَقَالَ: مَنْ أَحْكَمَ عِلْمًا فَذَاكَ يَهْدِيهِ إلَى سَائِرِ الْعُلُومِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَنَا أُلْقِي عَلَيْك شَيْئًا مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ فَخَرِّجْ جَوَابَهُ مِنْ النَّحْوِ فَقَالَ: هَاتِ قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ سَهَا فِي سُجُودِ السَّهْوِ؟ فَتَفَكَّرَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: لَا سَهْوَ عَلَيْهِ فَقَالَ مِنْ أَيِّ بَابٍ مِنْ النَّحْوِ خَرَّجْتَ هَذَا الْجَوَابَ؟ فَقَالَ: مِنْ بَابِ أَنَّهُ لَا يُصَغَّرُ الْمُصَغَّرُ فَتَحَيَّرَ مِنْ فِطْنَتِهِ.
وَلَوْ شَرَعَ فِي الظُّهْرِ ثُمَّ تَوَهَّمَ أَنَّهُ فِي الْعَصْرِ، فَصَلَّى عَلَى ذَلِكَ الْوَهْمِ رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ فِي الظُّهْرِ- فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ شَرْطُ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لَا شَرْطُ بَقَائِهَا كَأَصْلِ النِّيَّةِ، فَلَمْ يُوجَدْ تَغْيِيرُ فَرْضٍ وَلَا تَرْكُ وَاجِبٍ، فَإِنْ تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ تَفَكُّرًا شَغَلَهُ عَنْ رُكْنٍ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا مَرَّ.
وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ، ثُمَّ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَأَعَادَ التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةَ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ كَبَّرَ- فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ بِزِيَادَةِ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ أَخَّرَ رُكْنًا وَهُوَ الرُّكُوعُ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا شَكَّ فِي خِلَالِ صَلَاتِهِ فَتَفَكَّرَ حَتَّى اسْتَيْقَنَ، وَبَيْنَ مَا إذَا شَكَّ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ ثُمَّ اسْتَيْقَنَ فِي حَقِّ وُجُوبِ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْوَاجِبَ وَهُوَ السَّلَامُ.
وَلَوْ شَكَّ بَعْدَ مَا سَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً ثُمَّ اسْتَيْقَنَ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى خَرَجَ عَنْ الصَّلَاةِ وَانْعَدَمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَنْقِيصُهَا بِتَفْوِيتِ وَاجِبٍ مِنْهَا، فَاسْتَحَالَ إيجَابُ الْجَابِرِ.
وَكَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَعَادَ إلَى الْوُضُوءِ، ثُمَّ شَكَّ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى الصَّلَاةِ فَتَفَكَّرَ ثُمَّ اسْتَيْقَنَ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا إذَا طَالَ تَفَكُّرُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤَدٍّ لَهَا.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الشَّكِّ فِي الصَّلَاةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ.
وَأَمَّا حُكْمُ الشَّكِّ فِي الصَّلَاةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْبِنَاءِ وَالِاسْتِقْبَالِ فَنَقُولُ: إذَا سَهَا فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا سَهَا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ- وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَا سَهَا أَنَّ السَّهْوَ لَمْ يَصِرْ عَادَةً لَهُ لَا أَنَّهُ لَمْ يَسْهُ فِي عُمُرِهِ قَطُّ- وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ، (احْتَجَّ) بِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا؟- فَلْيَلْغِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى الْأَقَلِّ»، أَمَرَ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ؛ وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا أَخْذًا بِالْيَقِينِ مِنْ غَيْرِ إبْطَالِ الْعَمَلِ فَكَانَ أَوْلَى.
(وَلَنَا) مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهُ كَمْ صَلَّى؟ فَلِيَسْتَقْبِلْ الصَّلَاةَ» أَمَرَ بِالِاسْتِقْبَالِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا هَكَذَا.
وَرُوِيَ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَ أَدَّى الْفَرْضَ بِيَقِينٍ كَامِلًا، وَلَوْ بَنَى عَلَى الْأَقَلِّ مَا أَدَّاهُ كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُؤَدِّي زِيَادَةً عَلَى الْمَفْرُوضِ، وَإِدْخَالُ الزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ نُقْصَانٌ فِيهَا، وَرُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى إفْسَادِ الصَّلَاةِ بِأَنْ كَانَ أَدَّى أَرْبَعًا وَظَنَّ أَنَّهُ أَدَّى ثَلَاثًا فَبَنَى عَلَى الْأَقَلِّ وَأَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ لَيْسَ إبْطَالًا لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْإِفْسَادَ لِيُؤَدِّيَ أَكْمَلَ لَا يُعَدُّ إفْسَادًا، وَالْإِكْمَالُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِقْبَالِ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا وَقَعَ ذَلِكَ لَهُ مِرَارًا وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ، بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا هَذَا إذَا كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا سَهَا، فَإِنْ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا تَحَرَّى وَبَنَى عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِمَا رَوَيْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّحَرِّي لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُ الْيَقِينِ بِدُونِهِ بِأَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْأَقَلِّ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحَرِّي.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا؟- فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَهُ إلَى الصَّوَابِ، وَلْيَبْنِ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ مِنْ الدَّلَائِلِ، وَالتَّحَرِّي عِنْدَ انْعِدَامِ الْأَدِلَّةِ مَشْرُوعٌ كَمَا فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ، وَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِقْبَالِ؛ لِأَنَّهُ عَسَى أَنْ يَقَعَ ثَانِيًا وَكَذَا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، وَلَا وَجْهَ لِلْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوَصِّلهُ إلَى مَا عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَحَرَّى وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ، وَعِنْدَنَا إذَا تَحَرَّى وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ، وَكَيْفِيَّةُ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ يَجْعَلُهَا رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ الثَّلَاثِ جَعَلَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ جَعَلَهَا ثَلَاثًا وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَشَهَّدَ لَا مَحَالَةَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ آخِرَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ فَرْضٌ، وَالِاشْتِغَالُ بِالنَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ مُفْسِدٌ لَهُ فَلِذَلِكَ يَقْعُدُ.
وَأَمَّا الشَّكُّ فِي أَرْكَانِ الْحَجِّ ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ يَكْثُرُ يَتَحَرَّى أَيْضًا كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ.
(وَالْفَرْقُ) أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي بَابِ الْحَجِّ وَتَكْرَارَ الرُّكْنِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ، فَأَمْكَنَ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَتْ رَكْعَةً فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ إذَا وُجِدَتْ قَبْلَ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِالتَّحَرِّي أَحْوَطَ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ.
وَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَالْأَذْكَارُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ سُجُودُ السَّهْوِ بِهَا أَرْبَعَةٌ: الْقِرَاءَةُ، وَالْقُنُوتُ، وَالتَّشَهُّدُ، وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ.
(أَمَّا) الْقِرَاءَةُ فَإِذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَإِنَّمَا الْفَرْضُ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا غَيْرِ عَيْنٍ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ سَاهِيًا يُوجِبُ السَّهْوَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هِيَ فَرْضٌ فِي الْأُولَيَيْنِ عَيْنًا وَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ عِنْدَ تَرْكِهَا فِي الْأُولَيَيْنِ قَضَاءً، فَإِذَا تَرَكَهَا فِي الْأُولَيَيْنِ أَوْ فِي إحْدَاهُمَا فَقَدْ غَيَّرَ الْفَرْضَ عَنْ مَحَلِّ أَدَائِهِ سَهْوًا فَيَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ.
وَلَوْ سَهَا عَنْ الْفَاتِحَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا، أَوْ عَنْ السُّورَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا- فَعَلَيْهِ السَّهْوُ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّعْيِينِ فِي الْأُولَيَيْنِ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا قِرَاءَةُ السُّورَةِ عَلَى التَّعْيِينِ، أَوْ قِرَاءَةُ مِقْدَارِ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ وَهِيَ ثَلَاثَ آيَاتٍ وَاجِبَةٌ، فَيَتَعَلَّقُ السُّجُودُ بِالسَّهْوِ عَنْهُمَا.
وَلَوْ غَيَّرَ صِفَةَ الْقِرَاءَةِ سَهْوًا بِأَنْ جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ أَوْ خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ- فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَ إمَامًا سَجَدَ لِلسَّهْوِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ مِنْ هَيْئَةِ الرُّكْنِ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَيَكُونُ سُنَّةً كَهَيْئَةِ كُلِّ رُكْنٍ، نَحْوَ الْأَخْذِ بِالرُّكَبِ وَهَيْئَةِ الْقَعْدَةِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْجَهْرَ فِيمَا يُجْهَرُ وَالْمُخَافَتَةَ فِيمَا يُخَافَتُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي مِقْدَارِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سُجُودُ السَّهْوِ مِنْ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَفَصَلَ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي الْمِقْدَارِ فَقَالَ: إنْ جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ فَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرِ الْفَاتِحَةِ، أَوْ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ- فَعَلَيْهِ السَّهْوُ، وَإِلَّا فَلَا، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّهُ إنْ تَمَكَّنَ التَّغْيِيرَ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَإِلَّا فَلَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ تَمَكَّنَ التَّغْيِيرَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ السُّجُودُ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا جَهَرَ بِحَرْفٍ يَسْجُدُ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ الْمُخَافَتَةَ فِيمَا يُخَافَتُ أَلْزَمُ مِنْ الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ؟ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيمَا يُخَافَتُ فَإِذَا جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ فَقَدْ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ فِي الصَّلَاةِ بِنَفْسِ الْجَهْرِ فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ فَأَمَّا بِنَفْسِ الْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُجْهَرُ فَلَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ مَا لَمْ يَكُنْ مِقْدَارَ ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْمِعُنَا الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ أَحْيَانًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَهَذَا جَهْرٌ فِيمَا يُخَافَتُ، فَإِذَا ثَبَتَ فِيهِ ثَبَتَ فِي الْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُجْهَرُ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ، ثُمَّ لَمَّا وَرَدَ الْحَدِيثُ مُقَدَّرًا بِآيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ وَلَمْ يَرِدْ بِأَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ الزِّيَادَةُ تَرْكًا لِلْوَاجِبِ فَيُوجِبُ السَّهْوَ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَة عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَأَدَّى بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَتْ قَصِيرَةً، فَإِذَا غَيَّرَ صِفَةَ الْقِرَاءَةِ فِي هَذَا الْقَدْرِ تَعَلَّقَ بِهِ السَّهْوُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَأَدَّى فَرْضُ الْقِرَاءَةِ إلَّا بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ، فَمَا لَمْ يَتَمَكَّنْ التَّغْيِيرَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ لَا يَجِبُ السَّهْوُ، هَذَا إذَا كَانَ إمَامًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ، أَمَّا إذَا خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْجَهْرَ عَلَى الْإِمَامِ إنَّمَا وَجَبَ تَحْصِيلًا لِثَمَرَةِ الْقِرَاءَةِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ فَلَمْ يَجِبْ الْجَهْرُ فَلَا يَتَمَكَّنُ النَّقْصُ فِي الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ، وَكَذَا إذَا جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ؛ لِأَنَّ الْمُخَافَتَةَ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا وَجَبَتْ صِيَانَةً لِلْقِرَاءَةِ عَنْ الْمُغَالَبَةِ وَاللَّغْوِ فِيهَا؛ لِأَنَّ صِيَانَةَ الْقِرَاءَةِ عَنْ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ وَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ عَلَى طَرِيقِ الِاشْتِهَارِ وَهِيَ الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ فَأَمَّا صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ فَمَا كَانَ يُوجَدُ فِيهَا الْمُغَالَبَةُ فَلَمْ تَكُنْ الصِّيَانَةُ بِالْمُخَافَتَةِ وَاجِبَةً، فَلَمْ يَتْرُكْ الْوَاجِبَ فَلَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ.
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً فَأَخْطَأَ وَقَرَأَ غَيْرَهَا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ تَغْيِيرُ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكُهُ إذْ لَا تَوْقِيتَ فِي الْقِرَاءَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ قَرَأَ الْحَمْدُ مَرَّتَيْنِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ السُّورَةَ بِتَكْرَارِ الْفَاتِحَةِ.
وَلَوْ قَرَأَ الْحَمْدُ ثُمَّ السُّورَةَ ثُمَّ الْحَمْدُ- لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَصَارَ كَأَنَّهُ قَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً.
وَلَوْ تَشَهَّدَ مَرَّتَيْنِ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ فِي سُجُودِهِ أَوْ فِي قِيَامِهِ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ثَنَاءٌ وَهَذِهِ الْأَرْكَانُ مَوَاضِعُ الثَّنَاءِ.
(وَأَمَّا) الْقُنُوتُ فَتَرْكُهُ سَهْوًا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-.
وَكَذَلِكَ تَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ إذَا تَرَكَهَا أَوْ نَقَصَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَكَذَا إذَا زَادَ عَلَيْهَا أَوْ أَتَى بِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ تَغْيِيرُ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ.
وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ إذَا سَهَا عَنْهَا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ سَاهِيًا- قَرَأَهَا وَسَلَّمَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ.
وَأَمَّا فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَكَذَلِكَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ فِي هَذَا وَقُنُوتِ الْوِتْرِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ سَوَاءٌ، وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَذْكَارَ سُنَّةٌ، وَلَا يَتَمَكَّنُ بِتَرْكِهَا كَبِيرُ نُقْصَانٍ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يُوجِبُ السَّهْوَ كَمَا إذَا تَرَكَ الثَّنَاءَ وَالتَّعَوُّذَ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَذْكَارَ وَاجِبَةٌ، أَمَّا وُجُوبُ الْقُنُوتِ وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ فَلِمَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا وُجُوبُ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَلِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَمُوَاظَبَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَأَمَّا سَائِرُ الْأَذْكَارِ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّعَوُّذِ وَتَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَسْبِيحَاتِهِمَا فَلَا سَهْوَ فِيهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا سَهَا عَنْ ثَلَاثِ تَكْبِيرَاتٍ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ قِيَاسًا عَلَى تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَنَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ- لِمَا يُذْكَرُ- فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا السَّهْوُ، بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهَا مِنْ السُّنَنِ، وَنُقْصَانُ السُّنَّةِ لَا يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ وَلَا يَجِبُ جَبْرُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ فَوْقَ الْفَائِتِ، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْجَبِرُ بِمِثْلِهِ وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ السَّهْوُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَمْدًا؛ لِأَنَّ النَّقْصَ الْمُتَمَكِّنَ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَمْدًا فَوْقَ النَّقْصِ الْمُتَمَكِّنِ بِتَرْكِهِ سَهْوًا، وَالشَّرْعُ لَمَّا جَعَلَ السُّجُودَ جَابِرًا لِمَا فَاتَ سَهْوًا كَانَ مِثْلًا لِلْفَائِتِ سَهْوًا، وَإِذَا كَانَ مِثْلًا لِلْفَائِتِ سَهْوًا كَانَ دُونَ مَا فَاتَ عَمْدًا، وَالشَّيْءُ لَا يَنْجَبِرُ بِمَا هُوَ دُونَهُ، وَلِهَذَا لَا يَنْجَبِرُ بِهِ النَّقْصُ الْمُتَمَكِّنُ بِفَوَاتِ الْفَرْضِ.
وَلَوْ سَلَّمَ عَنْ يَسَارِهِ قَبْلَ سَلَامِهِ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي السَّلَامِ مِنْ بَابِ السُّنَنِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سُجُودُ السَّهْوِ.
وَلَوْ نَسِيَ التَّكْبِيرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ.
وَلَوْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ مِرَارًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَتَانِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» وَلِأَنَّ كُلَّ سَهْوٍ أَوْجَبَ نُقْصَانًا فَيَسْتَدْعِي جَابِرًا.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «سَجْدَتَانِ تُجْزِيَانِ لِكُلِّ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى وَسَجَدَ لَهَا سَجْدَتَيْنِ، وَكَأَنْ سَهَا عَنْ الْقَعْدَةِ وَعَنْ التَّشَهُّدِ حَيْثُ تَرَكَهُمَا، وَعَنْ الْقِيَامِ حَيْثُ أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، ثُمَّ لَمْ يَزِدْ عَلَى سَجْدَتَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّ السَّجْدَتَيْنِ كَافِيَتَانِ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إنَّمَا أُخِّرَ عَنْ مَحَلِّ النُّقْصَانِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ لِئَلَّا يُحْتَاجَ إلَى تَكْرَارِهِ لَوْ وَقَعَ السَّهْوُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّأْخِيرِ مَعْنًى، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى جِنْسِ السَّهْوِ الْمَوْجُودِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَا أَنَّهُ عَيْنُ السَّهْوِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا.